واقعنا كأفراد ومجتمعات في حاجة ماسة إلى دراسات تعيد للسيرة النبوية
مكانتها ، باعتبارها واحدة من أهم مصادر الإسلام ، ومن المعلوم أن الله
تعالى أمرنا بالتأسي والاقتداء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم - ، فقال : {
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }(الأحزاب: من
الآية21) ، وقال : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ }(آل عمران:31) . فكيف يتحقق هذا الاقتداء وهذه المحبة دون معرفة
حياته وسيرته ؟! . ومن ثم كانت حاجتنا لدراسة سيرته العطرة ـ صلى الله عليه
وسلم ـ لها دواعٍ كثيرة منها :
تعميق محبته ـ صلى الله عليه وسلم - :إن
تحقيق محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهم واجبات المسلم ، فقد قال -
صلى الله عليه وسلم - : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده
والناس أجمعين )(البخاري) ، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا يؤمن
أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه )(أحمد) .
ودراسة السيرة النبوية
من أهم وسائل تحقيق وتعميق هذه المحبة واستقرارها في القلوب ، ففيها معرفة
قدْر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشرفه وعلو منزلته ، وتأييده وحفظ الله
له ، وكيف نزلت الملائكة تقاتل معه يوم بدر ويوم الأحزاب وحنين ، ومعجزاته
الكثيرة التي أكرمه الله بها ، إذ كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكثر الرسل
معجزة ، وأظهرهم آية ، فله من المعجزات التي وقعت وتكررت في أماكن مختلفة
وأحداث متعددة ما لا يُحد ولا يُعد .
بل إن سيرته ـ صلى الله عليه
وسلم ـ بأحداثها ومواقفها ـ ذاتها ـ معجزة من معجزاته ، وآية من آيات نبوته
كما قال ابن حزم : " .. فإن سيرة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن تدبرها
تقتضي تصديقه ضرورة ، وتشهد له بأنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حقاً
، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته لكفى .." .
فلم
يكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مجرد عبقري سمت به عبقريته بين قومه
، ولكنه قبل ذلك رسول أيّده الله بوحي من عنده ، قال الله تعالى : { وَمَا
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }(النجم 3 : 4) ،
وقد أُوتِيَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحظ الأوفر والنصيب الأكبر من جمال
الصُّورة ، وتمام الخِلقة ، وحُسن الهيئة ، وما جُبل عليه من حسن الخُلُق ،
والرِّفق في المعاملة ، والعدل في الغضب والرِّضا . وكل هذا أثر أثرًا
بالغًا في حبه والإقبال على دعوته ، ولا عجب فقد زكَّاه الله ـ تعالى ـ
بقوله : { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }(القلم:4) ، ومن ثم فدراسة
سيرته ومعرفة شمائله وأخلاقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما يزيد ويعمق حبه في
القلوب .
السيرة والقرآن الكريم :لا
غناء للمسلمين عن السيرة النبوية وهم يعايشون القرآن الكريم وتفسيره ، ففي
دراسة سيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يعين على فهم كتاب الله تعالى
وتذوق روحه ومقاصده ، إذ إن كثيراً من آيات القرآن إنما تفسرها وتجلّيها
الأحداث التي مرت برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومواقفه منها ، ولا شك
أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو أول وأعظم من فهم القرآن الكريم وفسره
، فهو مبلغ الرسالة عن ربه ـ عز وجل ـ ، كما أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ
لم يقدم تفسيره للقرآن في أقوال منطوقة فَحَسْب ، ولكنه قدم هذا التفسير من
خلال حياته العملية والدعوية كلها ، فكانت حياته كلها ترجمة فعلية للقرآن
الكريم ، وكان القرآن خلقه - كما قالت عنه أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله
عنها - (أحمد).
الفهم الصحيح للنصوص :دراسة
السيرة النبوية تعين على الفهم الصحيح للنصوص ، وعدم الانحراف في الفهم
والتطبيق ، من غير غلو أو جفاء ، لأننا حين نجمع النصوص إلى طريقة تطبيق
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها ، مع إيماننا المطلق بأنه ـ صلى الله
عليه وسلم ـ هو أعلم أهل الأرض بمراد الله تعالى من قوله ، وأنه أوتي
القرآن ومثله معه ـ وهو الحكمة ـ ، كما قال الله تعالى : { وَاذْكُرْنَ مَا
يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً }(الأحزاب:34) ، ندرك شدة حاجتنا لدراسة
السيرة النبوية ، لأنه ليس في إمكاننا فهم النصوص بمعزل عن سيرته وطريقة
تطبيقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها ، ونحن مأمورون في كتاب الله بطاعته
واتباعه كما قال تعالى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ
}(النساء: من الآية80) ، وقال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ
اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }(آل عمران:31) .
السير على منهج القرآن الكريم :دراسة
سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيرٌ على منهج القرآن الكريم الذي قصَّ
علينا سير الأنبياء السابقين مثل : آدم ، نوح ، إبراهيم ، يوسف ، موسى ،
عيسى وغيرهم ـ عليهم الصلاة والسلام ـ . وذلك لتحقيق الأهداف التي من أجلها
بسط الله تعالى سير الأنبياء عموما من الاقتداء بهم ، والاعتبار من قصصهم
وحياتهم .
وقد كان سلفنا الصالح يفعلون ذلك مع السيرة النبوية
المشرَّفة ، فكانوا يحفظون سيرة ومغازي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما
يحفظون السورة من القرآن ، ويتواصون بتعلمها وتعليمها لأبنائهم ، فكان علي
بن الحسين ـ رضي الله عنه ـ يقول : " كنا نُعلَّم مغازي النبي ـ صلى الله
عليه وسلم ـ كما نعلم السورة من القرآن ".
وكان الزهري يقول : " علم المغازي والسرايا علم الدنيا والآخرة " .
وكان
إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ يقول : " كان أبي
يعلمنا المغازي ويعدها علينا " ، ويقول : " يا بني هذه مآثر آبائكم فلا
تضيعوها ".
القدوة :في
سيرته ـ صلى الله عليه وسلم - القدوة العملية للأجيال المسلمة على مر
العصور ، فهي تقدم إلينا نماذج سامية للشاب المستقيم في سلوكه ، الأمين مع
قومه وأصحابه ، كما تقدم النموذج الرائع للمسلم الداعي إلى الله بالحكمة
والموعظة الحسنة ، ولرئيس الدولة الذي يسوس الأمور بحكمة بالغة ، وللزوج
المثالي في حسن معاملته لأهله ، وللأب في حنو عاطفته ، وللقائد الحربي
الماهر ، والسياسي الصادق الحكيم ، وللمسلم الجامع بين واجباته وعبادته
لربه ، والمعاملة والمعاشرة الحسنة مع أهله وأصحابه .
فالسيرة
النبوية هي النموذج العملي التطبيقي الذي وضعه الله ـ عز وجل ـ للناس لكي
يقتدوا به ويتبعوه ، فكل من يبحث عن مثل أعلى في ناحية من نواحي الحياة
فإنه سيجد ذلك نموذجاً ماثلاً في حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيرته
على أعظم ما تكون القدوة .
ومن ثم فإن حاجتنا لدراسة السيرة
النبوية شديدة ، إذ أنها تعمق حب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في القلوب ،
وتحيي في الأمَّة روح العزَّة والسُّؤدد ، وتُصلح ما فسد من أخلاقها
وآدابها ، وتساعد على عدم الغلو أو الخطأ في فهم النصوص ، وتقدم القدوة
وتبرز الجوانب الإنسانية والأخلاقية في أرفع نموذج وأتم صورة للاقتداء به
واتباعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، كما قال الله تعالى : { لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة }(الأحزاب: من الآية21) .
موقع مقالات اسلام ويب